ترجمتي لفيلم " هنري ميللر لم يَمت " الوثائقي ومقدمة قصيرة




" ليلةً بعد ليلة، جبتُ تلك الشوارع بمفردي. يائسًا.. حزينًا
وقد كانت تلك الشوارع هي كل شيءٍ بالنسبةِ إلي ".

- هنري ميللر -



كثيرًا ما كان ميللر يؤكِّد على أنَّه لا يعتبر نفسه كاتبًا، فقد قال: أنا كاتبٌ لم يكتب قطْ "، وفي حديثٍ انفعالي ومسهب، قال لصديقه الڤوتوغرافي " پراساي " ذات ليلة" لا أؤمن بأنَّني كاتب. وليس لدي أي طموح لأكتب بشكلٍ جيد أو أنْ أمتلك أسلوب بارع في الكتابة. فكل ما أعرفه هو أنَّ هناك قوةٌ في داخلي، تُربكني وتدفعني لأعبِّر عن نفسي. ولذلك فإنَّني أُتأتِئ حينًا، وأُحاوِل أنْ أتلمَّس طريقي حينًا آخر ".

 وقد علَّق " ساكسُن هنري " على ذلك قائلًا: " ولكنْ ما لم يَعلمه هنري ميللر هو أنَّ تلمُّسه هذا للطريق؛ كان قد قلب العالم الأدبي رأسًا على عقِب بعد نشْرِ أوَّل روايةٍ له: مدار السرطان. والتي ظلَّت محظورة لأربعة عقود في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وذلكَ بعد أنْ تمَّ نشرها لأوَّل مرة في باريس في عام ١٩٣٤م. ولكن ما إنْ صدرت عن غروڤ أتلانتك " Grove Atlantic " في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في عام ١٩٦١م حتَّى أثارت موجة عارمة من الاحتجاجات والمحاكمات التي اعترضتْ على اللغة البذيئة التي كان يستخدمها ميللر في الكتابة ". كما أنَّ استهتاره وعدم تعامله مع الكتابة بشكلٍ جاد، كانا قد جعلاه غير ملائمٍ للمشهد الأدبي في ذلك الوقت. ففي إحدى جلسات محاكمته تحدّث عن تلك السِّمات التي شكَّلت مجمل أعماله وسلوكه العام فقال:

" إنَّني أحرصُ في كتبي على أنْ أُظهِر أسوأ جانبٍ من نفسي. فأنا أؤكِّد على وجود الجانب السيء من نفسي ". وفي ردِّه أيضًا على صديقه " پراساي " الذي أخذ يُوبِّخه ذات مساء على أسلوبِه المُورِّط في الكتابة، قال:

" ولكن أخبرني؛ لماذا قد أرغبُ في أنْ أضع حدًا لهذا الشعور بالانقضاض ! ".


وقد أوردَ " ساكسُن هنري " في مقالٍ له عدَّة ملاحظات تتعلَّق بالطريقة التي عمِد إليها ميللر في الكتابة، وذلك بعد أنْ أخذ يُقارن بين يوميَّاته التي كان يدوِّنها خلال الأعوام التي قضاها في مدينة باريس، وبين رواياته من ناحية أخرى. فكتب: " لقد كان ميللر يُدوِّن يوميَّاته بطريقةٍ تبدو كما لو أنَّه يُصمم كتيبًا إرشاديًا لحالته الذهنيَّة في تلك الفترة التي كان يعمل فيها على كتابة " مدار السرطان " و " مدار الجدي ". وما كان قد أدهشني حقًا هو القدر الهائل الذي كان يُخصِّصه من يوميَّاته لهذين العملين، إذْ يبدو بأنَّه كان يكتب قصصه أولًا هناك، ثم يقوم بنقلها بدقَّة إلى هيكلٍ أكثر تلاحمًا. وقد لاحظتُ بأنَّ بعض الصفحات كانت قد كُتبت في الوقت الذي كان يستكشف فيه مدينة باريس، بينما بعض الصفحات الأخرى بدا أنَّها قد كُتبت في أعوامٍ لاحقة، وذلك حين كان يستعيد ذكريات الأيام التي قضاها هناك، إذْ كان يُزيل بعض الإشارات التي تُحيل إلى تلك الفترة، ويزوِّدها بمقدمات جديدة، ويُضيف إليها بعض الملاحظات ". 



وأما فيما يتعلق باللغة والأسلوب، فقد كان ميللر يميل إلى البحث عن أساليب وطرق تعتمد على تركيب اللغة ذاتها. وقد كتب ذات مرة حول طبيعة اللغة الفرنسيَّة في الكتابة: " إنَّ الأسلوب الفرنسي غالبًا ما يتَّسم بصفاء الفكرة ووضوحها. لذا فمن النادر أنْ تشعر بالالتباس اتِّجاه بعض المفردات كما هو الحال في اللغة الإنجليزيَّة. وما يثير اهتمامي في هذه اللغة تحديدًا هو الطريقة التي تُستجمع وِفقها الصِّفات " Adjectives "، وتُبنى من خلالها جمل التغيير " Modifying Clauses "، وهذا هو التأثير الذي أريد أنْ أُوجِده في اللغة الإنجليزيَّة عندما أكتب ".



وعن تلك الفترة التي قضاها في مدينة باريس؛ كان ميللر قد تحدَّث إلى " جورج بيلمونت " في مقابلةٍ أُجريت معه في عام ١٩٧٠م ووصفها بأنَّها كانت " أيام محفوفة بالخطر ومشحونة بالألم وعدم الاستقرار ". فكثيرًا ما كان يجوبُ شوارع المدينة ليلًا. وقد كانت الشوارع آنذاك؛ مُرشِده الوحيد. وقد كتب لاحقًا في مقالٍ له: " بالكاد هناك شوارع لا أعرفها في مدينة باريس. ففي كثيرٍ منها عشتُ تجارب مختلفة وغير متوقعة، وفي بعضها اكتسبتُ فهمًا مُتبصِّرًا لبعض الأمور ". وعن هذا الميل إلى المشي؛ كتب " پراساي " في السيرة الذاتيَّة التي وضعها عن حياة ميللر: " لقد كان ميللر سائرٌ لا يكلّ ولا يملّ ". وفي رسالةٍ كتبها " پليز سِندرار " بعد أنْ قرأ رواية " مدار السرطان " قال: " لم أقرأ من قبل أي كتابٍ لأمريكي أو أي أجنبي ذكر فيه مؤلِّفه سمات وملامح شوارع مدينة باريس بشكلٍ يمكن أنْ يُضاهي ما كتبه ميللر في هذا الشأن ".

 


ففي كثيرٍ من صفحات يوميَّاته؛ كان ميللر يدوِّن بانتظام عدَّة ملاحظات، وقد كتب في إحداها ذات مرة؛ مُقارِنًا بين مدينة " باريس " ومدينة " بروكلين "، مسقط رأسه: " إنَّ باريس تخلد إلى النوم مبكرًا، لكن الحال لا تبدو هكذا في نيويورك، فهناك يصبح المرء معتاد على سماع صوت المِثقاب الكهربائي وقعقعة تشييد المباني.. وكل هذه الضَّوضاء، حتَّى بعد منتصف الليل. لكن في باريس تصبح أُذن الإنسان حسَّاسة جدًا اتِّجاه أدق الأصوات ". وقد كان من عادته أيضًا أنْ يُدوِّن بعض تغيُّرات الطقس إلى جانب رسومات بألوان مائية.




إنَّ ميللر إذْ يتعامل مع الحياة من حوله بشيء من الخِفَّة والمُجاراه؛ فربما يعود ذلك إلى أنَّه قد اختبرها بشعور من هو في حالةِ ترقبٍ دائم. فالقدرة على " التقبُّل " و" الاستسلام "؛ تُعد عاملًا حاسمًا بالنسبةِ لميللر. ففي حوارٍ أُجري معه قال: " أعتقد بأنَّ الشيء الوحيد المُهم في معرفة الحياة هو أنْ تعرف كيف تستسلم. وإلى أنْ تعرف كيف تستسلم؛ فأنتَ حتَّى ذلك الحين لا تعرف أي شيءٍ عن الحياة ". وإلى جانب هذه القدرة؛ فإنَّ ميللر يمتلك أيضًا شجاعة الاعتراف والإقرار، إذْ يقول بيقين: 

" لم يسبق لي أنْ تراجعتُ عن شيءٍ قُلته أو فعلته أو أنكرتُ القيام به، حتى وإنْ كان ذلك شيء خاطئ أو أحمق ".


* * *


ففي عدَّةِ لقاءات؛ يذكر ميللر بعض الظروف المؤلمة التي مرَّ بها، وجانبٌ من تجاربه في الكتابة، ويتحدَّث عن بعض اللحظات المؤثِّرة في حياته العائليَّة. ويستعرض الفكرة التي يتصوَّرها عن الحياة والموت. مُشدِّدًا على أنَّها، أي الحياة، ليست سِوى لُعبة  و " ليس لها مغزى أبعَد من ذلك ". فيقول:

 " إنَّها مجرَّد لعبة. ولكنَّها لعبةٌ عظيمة ".

وبحسبِ ميللر؛ " يمكن للأشياء أنْ تكون بلا معنى، ومع ذلك؛ تظل قابلة للعيش، ويمكن الاستمتاع بها ". وذلك دون محاولةٍ من جانبه 

في فرض شروطه عليها أو رفضها. 





[  هنري ميللر لم يَمتْ  ]



تعليقات

المشاركات الشائعة