" بينما أرقد محتضرة " .. قصيدة جنائزية من الريف الأمريكي








١٣ ابريل ٢٠١٨
في صيف عام ١٩٣٠م كتب ويليام فوكنر روايته " بينما أرقد محتضرة " حينما كان يعمل كحمَّال للفحم في محطةٍ لتوليد الطاقة، خلال ستة أسابيع شرع فيها بالكتابة كل ليلة، من بعد منتصف الليل وحتى الرابعة فجراً، دون أن يعدِّل فيها حرفاً واحداً قبل النشر.

وتجري أحداثها في الريف الأمريكي في بداية القرن العشرين، حول مظاهر الشقاء والفقر، لعائلة يجاهد أفرادها في التآزر بأمرٍ من والدهم، من أجل العمل على تنفيذ وصية والدتهم التي كانت تحتضر آنذاك، في أن يتم نقل جثمانها ودفنها في مسقط رأسها، الا أن وفاتها تأتي متزامنة مع ظروف جوية بالغة الخطر، إذ يستمر المطر في الهطول لعدة أيام، ويرتفع منسوب مياه النهر إلى درجة يتعذَّر معها عبوره، وتنهار كل الجسور منذ اليوم الأول، ورغم تحذيرات الجيران ومحاولاتهم في تأجيل هذه الرحلة؛ الا أن ذلك لم يثني من عزيمة آل بندرن في القيام بهذه المجازفة. وهذا الإصرار الإنساني الذي يبدو أحياناً مبهماً وغير مبرر، على حد تعبير إدوارد غاليانو، دفع بهم إلى نقلها على عربة مهترئة تجرَّها بغال نحيلة لا تقوى على الصمود أمام سفر طويل قد يستغرق عشرة أيام، في حال حالفهم الحظ.

تبدو الأجواء المحيطة بالشخصيات، باردة وجافة، كأنما حياتهم، ليست حياة ارتجالية، وإنما حياة استُهلكت في التكرار حتى أصبحت بالية وعديمة النفع. وفي تعاقب الفصول التي تبدو قصيرة جداً بعد المرور بها، يجيد فوكنر تكرار الجمل التي تعلق في ذهن شخصياته حتى تصبح شيئاً مألوفاً فيما بعد، على الرغم من أنَّها تبدو مبهمة في البداية ويبدو فيها شيءٌ من الهذاء. الا أنه يتعامل مع غرابة هذه الشخصيات بأنها طريقتها في فهم وتقبل الأمور.
وباستعانته بسوء الأحوال الجوية؛ نجح في خلق طقس متماسك لكافة أجزاء الرواية، فالمطر، وفيضان النهر، وشدة اندفاع تيار الماء، وحِدَّة العاصفة، كلها قد اتخذت دلالات زادت من تماسك سرد الأحداث، ففوكنر لديه ذلك الحس الغريب في أن يروي أحداثاً لا تخلِّف أيّ أصوات في الذاكرة، لكنها تترك صورة واحدة، متينة ومتماسكة. فليس هنا متسع للألم أو الخوف والقلق، فكل شيء يتدفق بقسوة ويعيد نفسه برتابةٍ مرهقة، وفي ظروف كهذه يستوعب المرء بأنَّ البؤس المشترَك أشد من ذلك الذي يحمله الفرد وحده، فهو ليس محاصر فقط بهذه الظروف الصعبة والتي ما زالت مستمرة، وإنما محاصرٌ أيضاً بالأشخاص المرتبطين معه في نفس الموقف، فتصبح رغبتهم في التحرر من بعضهم أكثر توقاً للتحرر من ذلك البؤس الذي جمعهم.

يوحي اسم الرواية بأنَّ المعنية به، هي من تستأثر بالنصيب الأكبر من سرد الأحداث، لكن يتَّضح لاحقاً أنه عمل متعدد الرواة " بوليڤونيك "، وتحظى فيه بفرصة واحدة فقط لتتحدث فيها عن حياتها بصورة ضبابية ومشوشة، تبدو فيها ناقمة وتشعر بالذنب في نفس الوقت. فآدي بندرن التي كانت تعمل كمعلمة في ولاية أخرى بعيداً عن أهلها، حين قابلت زوجها السيد آنس بندرن في البداية، وافقت على الزواج منه عاجلاً وبطريقة لامبالية بعد حديثهما الأول، حين شعرا بأنهما يتقاسمان الوحدة في هذه المدينة البعيدة، لكن المأزق الحقيقي الذي يقع خلف زواج غير مسؤول، هو الأمومة، فكانت ترى بأنَّ إثمها الوحيد هو أنها لم تستطع أن تحب أطفالها، فقد كانت تشعر بأنهم حين يشاركونها ذاتها، فهم بذلك ينتهكون خصوصيتها، لاسيما حين كانت تجد نفسها في خضم تكرار هذه التجربة مرة أخرى، إذ كان زوجها دائماً ما يقول لها " أنا وأنتِ لم ننتهي من الإنجاب بعد " فأخذت تعتقد، بينما كانت تهز مهد ابنها كل ليلة كي ينام، بأنَّ الخلاص هو مجرد كلمات مثلما هو حال الإثم، وأنَّ الحياة ـ وليس الاحتضارـ ما هي الا استعداد للموت، الأمر الذي كان والدها دائماً ما يكرره أمامها حينما كانت لا تزال طفلة، أما الاحتضار بالنسبة لها، فلم يكن سوى إعادة للنظر في مسألة الحياة التي عاشتها، وأولئك المحيطين بها، والحياة التي كانت جديرة بها رغم كل شيء.

تقول عنها السيدة كوراتل التي تعمل في أبرشية القرية، بأنها آثمة، وأنها على الرغم من كل النِعم التي وهبها إياها الرب، لم تتقبلها بقلبٍ شكور، وظلت تعاني حتى اللحظات الأخيرة من حياتها، فتقول لها بشيء من التوبيخ: " لأن حياتكِ قاسية، هذا لا يعني أنَّ الله قد غفر لكِ ". الا أنها رغم ذلك كانت تشعر نحوها بشيء من التعاطف، حين أخذت تقول لزوجها: " لقد صليت من أجل تلك المرأة الفقيرة العمياء كما لم أصلِّ من أجل نفسي وأولئك الذين هم أقربائي ".

يصف فوكنر احتضار السيدة بندرن بأنها بعد اللحظات الأولى من موتها بدا كل ما فيها ساكناً وباهتاً، عدا يديها: " اليدان وحدهما لا يزال فيهما شَبه بالحياة، سكونيَّة مجعَّدة كثيرة العقد، ما زالت يقظة لم يغادرها التعب والإرهاق والضَّنى، كأنما كانت تُشكك بحقيقة أنَّ الراحة قد أضحت واقعاً ".

ولم يفهم أحد ظروف الموت والاحتضار الطويل، مثلما فعل الطفل فاردامان وموقفه الغريب منه، ففي الليلة التي كانت تحتضر فيها والدته، كان شقيقه جوويل قد أحضر سمكة سقطت منه على التراب وهي تحاول أن تتخلص من قبضته، الا أنه تمكن منها قبل أن تموت وقطعها إلى نصفين ووضعها على المقلاة وخرج، أمام ذهول فاردامان الذي كان يراقبها وهي تنزف بهدوء على سطح المقلاة حتى وقت تحضير العشاء، فأخذ يفكر في والدته التي كانت تحتضر على سريرها الرمادي، وهي تصغي لصوت منشار الخشب، حين كان يعمل ابنها على صنع تابوت منزلي من خشب الأرز، ومنذها أصبح فاردامان يكرر كثيراً: " أمي سمكة ".
وفي حادثة عبور النهر في رحلتهم إلى المدينة التي أوصت بأن يتم دفنها فيها، غرقت العربة لشدة اندفاع تيار الماء، بما فيها الصندوق الخشبي الذي ترقد فيه السيدة بندرن، وبينما كانوا يحاولون رفعه، كان الصبي فاردامان يحاول أن يفلته من أيديهم، مصراً على أن يُطلق سراحها في النهر وهو يصرخ بأنها سمكة وهنا حيث تنتمي.

" لا نصبح واعين بأنفسنا الا حين نتعرض لأضرار معيَّنة ". نيتشه. جينالوجيا الأخلاق
لا تعي الشخصيات وجودها من الداخل، الا بعد أن تكون قد تجاوزت الخطر، وبدأت تستدرك ذاتها وما حولها، إذ لا يمكن للإنسان في ظروفٍ حرجة ومعقدة كهذه، أن يكون محايداً أو لامبالياً، فهو مغمور بها، ويسعى إلى أن يخلص نفسه منها، وغيره إن استطاع.

عندما وصل أفراد عائلة آل بندرن إلى مدينة جيفرسون، حيث كان من المتوقع أن يتم الدفن في يوم وصولهم، كان كل فرد منهم، قد عانى نصيبه من الشعور بالتعب والأسى، الا أنَّ البؤس الذي يسيطر على أفراده لوقت طويل، يجعل ميلهم للانفلات منه، يزيد من رغبتهم في خلع هذه المعاناة، والبدء في عيش حياة سعيدة، هادئة، لا مكان فيها للقسوة أو البرود واللامبالاة، فيشعر كل فرد منهم بشيء من المسؤولية اتجاه معاناة الآخر، في فهمها أو تقبلها، على الأقل ليس تجاهلها.
 
- النهاية -
" ثم أنظر إلى الحقيبة التي كانت تحملها، وهي عبارة عن واحد من أجهزة الفونوغراف، فهو مغلق وجميل كلوحة، وفي كل مرة كانت تأتي أسطوانة جديدة عبر البريد، كنا نجلس جميعاً ونحن في المنزل في فصل الشتاء ونصغي إليها، ففي حين يبدو المرء متعباً لدرجة يتعذر معها مواصلة التقدم؛ لا أعرف ما إذا كان القليل من الموسيقى هو أفضل ما يمكن له أن يحوز عليه ".



تعليقات

المشاركات الشائعة