قراءة في رواية " ولم يقل كلمة " لهاينرش بول




١ مارس ٢٠١٨

رواية حول الأسى الإنساني والخوف المتآكل في ظروف الحرب التي يكبر المرء في ظلها وهو يدرك أن لكل شيء ثمنه حتى مشاعر العطف والاهتمام، فالسيد بوكنر الذي أصبح صديقاً للمقابر والحانات، لم ينسى في طفولته تلك الوجوه للباعة المتجولين، الذين كانوا يطرقون باب منزله لبيع متعلقات بسيطة مثل كِسر الصابون وملمع الأرضيات أو أربطة الأحذية، فيدلف مسرعاً لينادي والدته، التي كانت دائماً تأتي متعجلة من المطبخ وهي تجفف يديها، فإن لم تكن تملك النقود، ما كانت لتسمح لهم أن ينصرفوا دون أن تقدم لهم بإلحاح بعض الخبز أو كوباً من القهوة أو على الأقل قدح نظيف من الماء البارد، " لا تستطيع مقاومة وجوه أولئك المعذبين، حتى أنها راحت توقِّع لهم على أثمان أشياء تظل ديوناً عليها " وتتحمل جراء ذلك، الشجار الليلي المعتاد مع والده.  

يمضي بوكنر نهاره بعد انتهاء العمل في إيداع مبلغ صغير لزوجته، ثم يذهب لتناول الغداء قبل أن يبدأ في زيارة العائلات التي كان يعمل لصالحهم كمدرس خصوصي لأطفالهم، والذين عادة ما كانت ظروفهم المادية تجعلهم يطلبون منه تأجيل الدفع، الأمر الذي كان يجعله أحياناً يذهب إلى الفراش بلا عشاء أو سجائر، الا أنه كان متفهماً جداً إزاء ظروفهم، بل ويمنحهم موافقته قبل أن يتمكنوا من إنهاء الجملة حتى لا يُشعرهم بالإحراج أو يكلِّفهم استعطافه، فلطالما قيل أنَّه لا يشعر بالمعتازين سوى من كانوا في مثل حالهم أو أسوأ، لكن بوكنر يفعل ذلك بسكونٍ شديد كما لو أنَّ الأمر لا يعنيه، وإنما هو مجرد مُحصِّل، لا الشخص الذي سيتضرر من جراء هذا التأجيل.

يقطن السيد بوكنر في قسم آخر من المدينة ولا يستطيع أن يلتقي بزوجته الا في فندق من الدرجة الخامسة والذي كثيراً ما تكون كل الغرف فيه مشغولة لاسيما في أوقات الاحتفالات والمهرجانات، أما أطفاله الثلاثة الصغار كانوا يقيمون مع والدتهم في غرفة مستأجرة بمنزل زوجين مسنين.

" أرى بأنّ كل سنة تمضي من عمري .. تذهب إلى عمر أطفالي "، كان هذا كل ما بوسعها أن تقدمه لهم، فهي تكرِّس كل جهدها للعناية بهم وقضاء وقتها برفقتهم، لاسيما أنَّهم لا يستطيعون اللعب خارج الحجرة بسبب الحرص الشديد الذي توليه السيدة المسنة لأثاث منزلها وضيوفها.
كانت السيدة كيت تصغي إلى غناء المتسول الذي يتناهى إلى سمعها عبر نافذة المطبخ لاسيما حين يردد بأسى ".. لم يقل كلمة .. ولم يقل كلمة .. ". وهي تعد وجبة الظهيرة التي تغمر المنزل برائحة الطعام، ويحزنها كثيراً أنَّ الأطفال فرحون بها بهذا القدر، فهي تحتمل كل مثالب الفقر، عدا حرمان الأطفال من الطعام أو تعرُّضهم للضرب من والدهم حين يصبُّ جام غضبه عليهم تحت وطأة ظروفه المادية الصعبة.

وربما ما يخفف من شدة هذه الاكتواءات النفسية، هو مشاعر التكافل التي تنشأ بين بعض سكان المدينة، لاسيما وأنهم يعيشون ظروفاً متشابهة، فالديون هنا لا تلاحق المقترضين، بل يدفعون متى كان بمقدورهم، الأمر الذي كان بمثابة حافز لهم في سرعة السداد، وكي يحتفظوا أيضاً بتلك العلاقات الطيِّبة التي كانت تربطهم مع أصحاب الدين. فالفتاة الشابة التي كانت تعمل في متجر متواضع برفقة والدها المسن، لم تتوانى عن عرض وجبة إفطار للسيدة الواقفة أمام المتجر، حين شعرت بأنها تبدو جائعة ولا تمتلك ثمن وجبة إفطار: " لا تترددي في القدوم إلى هنا فقط من أجل سداد الثمن، يمكنكِ المجيء في أي وقت ". الأمر الذي جعل السيدة كيت تستطيع ولو لمرة واحدة أن تتوقف عن التفكير والقلق بشأن ظروفها المادية وتتناول إفطارها بشهيةٍ بالغة.

إنّ البؤس الذي يسكن الشخصيات، يتسرب للقارئ أيضاً، فيشعر بأنه أصبح ينتمي إليه، لا يوجد لحظات سعيدة هنا، أو شعور بالرضا والاكتفاء، فكل شيء غارق في اللامبالاة والسكون، فبالنسبة لهم، فقط اللحظات الأولى من الصباح عند تناول كوب من القهوة مع بعض الكعكات المقلية؛ هو ما يجعل بقية اليوم محتملاً، عدا ذلك يشعرون بأنهم عالقين في مساوئ الفقر والخوف والقلق، القلق من أن لا يحبك أطفالك وأن لا تستطيع بدورك أن تحبهم، والخوف من لا جدوى علاقة امتدت لعقدٍ كاملٍ من الزمن.

ما يطارد الفقراء هنا ليس الديون، بل الإعلانات، فهي تقتحم كل لحظات حياتهم وأشدها خصوصية، حتى تلك اللحظات الحرجة التي يناقشون فيها بغضب مسألة انفصالهم وتدبر الوضع المعيشي للأطفال، تطل عليهم تلك الإعلانات بوميضها عبر نافذة الغرفة، في فندق متواضع، وحتى آخر لحظة قبل النوم ..اللحظة التي يتسائل فيها المرء عن معنى وجوده وكل ما يهرب منه. وفي النهار تلاحقهم أصوات الباعة الذين يعرضون منتجاتهم السحرية على  أنها تمتلك الحل لكل المشكلات، بينما كل ما يستطيع فعله هؤلاء الذين تقع أسماعهم تحت اضطهاد هذه الإعلانات، أن يتناولوا محفظة نقودهم ويعاودون الكرَّة من جديد في عدّ النقود التي بحوزتهم وما إذا كانت تكفي لتناول وجبة إفطار أم لا.
،

" في وقت الغسق الأرجواني، عندما أراهم يسيرون في الطريق بتلك المشية، أشعر بأنَّهم يمتلكون بعضاً من ذلك التواضع الخالي من الأمل، ولأمسية أو اثنتين، يعانون حزناً هادئاً قبل أن يتمكنون من النسيان ".
- بريمو ليفي


تعليقات

المشاركات الشائعة